(2)
مقام الإحسان
رسالة في المعية ألتي
حيرت البرية
الفقير إلي الله
د حسين رضوان سليمان اللبيدي التممي
استشاري طب بشري وعضو مؤسس لهيئة الإعجاز
العلمي بمكة المكرمة
وعضو مكتب الإعجاز العلمي بالقاهرة ومسئول
مكتب الإعجاز بجنوب الوادي
لا يعقل أن تحل الدائرة في نقطتها ولكن الدائرة تستوعب عدد لا يحصي من
النقط
فكيف يحل المحيط في النقطة ، وكيف يحل أو يتحد اللآمحدود في اللاشيء
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد مهم
بعد تلك الرحلة العلمية الراقية التي عرضناها في الكتاب الأول في مقام
الإيمان والتي نلخصها فيما يأتي :
ايقنا بأن للكون خلاق له صفات الكمال ومن صفات كماله أنه لم يخلق ذلك الكون
العظيم عبثا أو باطلا بل خلقه لهدف غايته الكمال ، والكون ينقسم الى قسمين ، قسم مسير
خلق لتسبيح الله وليكون منه آيات بينات للقسم المخير ، والقسم المخير حر الإرادة مكلف
بعبادة الله طوعا ، ومن صفات كمال الخلاق العليم أنه سبحانه زود المكلفين بآيات مانعة
للجهالة قاطعة للأعذار في دنيا التكليف بمغرياتها وشياطينها ، هذه الأدوات المانعة
للجهالة هي : أن الله جعل من حول المكلفين من عباده كون يشع بالآيات البينات التي تدل
على وجوب وجود خلاق له صفات الكمال ، وخلق له عقل برنامجه متوافق مع برنامج ذلك الكون
العظيم حتى يدركه ويتعامل معه ، وذلك العقل زوده العليم الحكيم بخاصية البحث عن الحكمة
والهدف والغاية التي بها يقوم العقل برحلة فكرية على مدارج آيات عالم الشهود فيطل إلى
الغيب وكأنه يراه فيؤمن ، وفوق كل ذلك زود الرحمن عقل ( قلب ) المكلف ببرنامج ( الوحي
) يصاحبه من البداية معلما ، ويرسله مع الرسل وفقا لمراحل البشرية ، معلما وهادبا ومذكرا
وشافيا ، بشيرا ونذيرا كما بينت سورة الأحزاب 45-46 : ﭧ ﭨ ﭽ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭼ
وعندما يوقن المكلف بعظمة الله وعظيم نعم الله عليه وتكريمه
له ، يصبح أشد حبا لله ، كما جاء في سورة البقرة 165 : ﭧ ﭨ ﭽ ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﭼ
والمحب يتلمس الطريق
الي مكان حبيبه ويطلب رؤيته ، كما حدث مع موسى عليه السلام عندما إستشعر قرب الله منه
فطلب الرؤية ، كما جاء في سورة الأعراف 143 :
ﭧ ﭨ ﭽ ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﭼ
مما يفتح الطريق
إلى تسائل المحبين : كيف أعبد الله وأتقرب إليه وكأنني أراه ؟
هذا من علوم مقام
الإحسان الذي سنناقشه في البحث التالي في اسرار قضية المعية .
مقدمة
* قضية المعية ( مع الله ) من
اخطر وأعمق القضايا في دنيا التكليف لأنها تختص بالعلاقة الوجودية بين الخالق
والمخلوق ، وكم تاهت عقول وزاغت قلوب في التفكر في تلك القضية الخطرة ، بما ترتب
عليه من ظهور أفكار ضالة كفكرة وحدة الوجود والحلول والإتحاد ، وأيضا ما ظهر من
أفكار التجسيم والتحديد والتعطيل والتأويل ( بغير ضمانات شرعية ) ولقد تابعت
البحوث في هذا المجال علي مدي مآت السنين ولاحظت أن أفضل الناجين من هذا البحر
اللجي هم المتبعين لمنهاج السلف المحصنين بضوابط الكتاب والسنة ، ومن جهة أخري كان
الهالكين من أصحاب التأويل بالرأي المعتمد علي الهوى أو الظن .
ومع كل ما ابلي فيه أهل السلف من جهود مضنية في تلك القضية الصعبة بقيت
ثغرات هامة تحتاج إلي سد وإشكالات فكرية تحتاج إلي حل .
وبعد جهد ثلاثون عاما من التفكر والتدبر من الله علي بما سد الثغور وحل
الإشكالات ، من خلال ( فلسفة العدم ) فأن أصبت فهذا فضل من الله يقتضي الشكر وان
أخطأت أتبرأ من خطئي ، واستغفر الله وأتوب إليه .
ونبدأ باستعراض أراء السلف والتابعين في هذه القضية الهامة فنقول وبالله
التوفيق :
وصفت بعض آيات الوحي الذات
الإلهية بالعلو والفوقية مثل
* الوصف المباشر : كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} {وَهُوَ
الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه} {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ}. قال البيهقي
في كتاب " الأسماء والصفات" في الكلام على قوله: {أَأَمِنتُم مَّن فِي
السَّمَاء} أراد من فوق السماء كما قال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ
النَّخْلِ} بمعنى على جذوع النخل. وقال: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ}أي على الأرض.
وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السموات، فمعنى الآية: أأمنتم من على العرش كما
صرح به في سائر الآيات.
* الوصف غير المباشر : تارة بلفظ صعود الأشياء وعروجها ورفعها إليه، كقوله:
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ
إِلَيْهِ} {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
إِلَيَّ}. وتارة بلفظ نزول الأشياء منه، ونحو ذلك، كقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ
رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى
الأَرْضِ}.
وأما السنة: فقد دلت عليه بأنواعها القولية
والفعلية والإقرارية في أحاديث كثيرة تبلغ حد التواتر، مثل قوله صلى الله عليه
وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء"، وقوله صلى الله عليه وسلم:
"والعرش فوق الماء والله فوق العرش"، وقوله: "ولا يصعد إلى الله
إلا الطيب". ومثل إشارته إلى السماء يوم عرفه يقول: "اللهم اشهد"
يعني: على الصحابة حين أقروا أنه بلّغ.
ومثل إقراره الجارية حين سألها: "أين
الله؟"، قالت: في السماء. قال: "أعتقها فإنها مؤمنه". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
"ما بين السماء القصوى والكرسي خمسمائة عام، ويبن الكرسي والماء كذلك، والعرش
فوق الماء والله فوق العرش، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم"1 وقال: (رجاله
رجال الصحيح). إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.
والمشكل هنا هو ان ذلك قد يوهم المكانية والتحديد والتجسيم
وبالنسبة إلي نسبة العلو والتفرد والبينونة والإحاطة للذات فهو متفق عليه ولا
إشكال فيه ، ولكن يتعلق بهذا العلو مشكلتان : إحداهما يوهم المكانية كما جاء في شرح
الواسطية لأبن تيمية يقول الشيخ صالح بن الشيخ :
قال (وَقَوْلُهُ لُلْجَارِيَةِ: "أَيْنَ اللهُ؟". قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ.)
(أَيْنَ اللهُ) هذا سؤال عن المكان لأن (أين) يسأل بها عن المكان والنبي صَلَّىْ اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمْ سأل الجارية عن ذلك فدل على أن الله جل وعلا جهة مكانه العلو .
وكل موجود لا بد أن يكون له جهة والذين منعوا وصف الله بالعلو قالوا : لأن الجهات من
عوارض المخلوقات - والجهة أن يكون في جهة معينة - ولأنه إذا أثبتت الجهة اقتضى ذلك
التحيز وأن الجهة تحوزه وتشمله وتحوطه .
وهذا باطل لأنه ثَمَ جهات يعلمها البشر بما عهدوا وهي : أمام وخلف ويمين وشمال
وتحت وفوق وهذه بالنسبة للبشر يتصورونها ، فهذا بالنسبة للبشر يقتضي الحصر لأنهم يرون
هذه الجهات منحصرة في غيرها أما الله جل وعلا فله جهة العلو .
والعلو نوعان :
" علو نسبي : يعني
هذا علو إضافي نسبي يعني بالنسبة للبشر .
" وعلو مطلق : والله جل وعلا في العلو المطلق الذي هو العلو بالنسبة
لجميع جهات الأرض ، فسُفْلُ الأرض ما ينحدر إلى مركزها وعلو الأرض ما يتباعد عن محيطها
كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية فيكون العلو لله تبارك وتعالى العلو المطلق والعبد
إذا دعا الله ورفع يديه إليه سواء كان في أي جهة من الأرض سواء كان في شمالها أم في
جنوبها في ظهرها أم في الجهة الأخرى فإنه إذا رفع يديه فإنه يرفع يديه إلى العلو المطلق
- وانتبه إلى هذه الكلمة فإنها مهمة.
أيضا من الجواب أنها موجودة في غير كتاب مسلم بالأسانيد الصحيحة وليس فيها غرابة
، ما فيها غرابة ، هذا اللفظ فيه السؤال عن الجهة والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ
هو السائل وجهة العلو ثابتة لله جل وعلا في غير هذا الدليل كما في قوله (أَأَمِنتُمْ
مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ) كقوله (أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا
أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ) واضح (مَنْ فِي السَّمَاءِ) يعني من في العلو .
|
لطيفة فكرية : وقد تفهــم بعض العقــول البسيطه أن الرسول أقر للجاريــة بأن الله في
السمــاء ( المكان ) لأن من أحد معاني (في) في اللغة أنها ظرف مكان ، فتكون السماء
إشارة إلي المكان ، والراسخون في العلم من الذين فسروا هذا الحديث قالوا : أن رسول
الله لا يقصد الإشارة إلى تحديد مكان لذات الله – فهذا لا يعقل – بل يقصد إختبار
مكانة الله في قلب الجارية ، فإن كان فيه شك أو إنكار لقالت لا أعلم ، ولو كان فيه
شرك لأشارت إلى مكانه علي الأرض ، فلما أشارت إلى العلو علم أن قلبها مؤمن بوجود
الله وأنه في علاه فوق كل شىء ، ولذلك حكم عليها صلى الله عليه وسلم بالإيمان بقدر
عقلها ( وفي شرح مسلم ما يقارب ذلك ).
|
المشكل الثاني هنا
هو : في النزول والصعود وغير ذلك مما يوهم حركة الذات في المكان والزمان وهو ما
يعني التجسيم والتحديد والحلول وفي هذا خروج عن الملة .
ولحل ذلك الإشكال نعيش لحظات مع شرح النووي وفتح الباري كما يلي :
أولا : شرح النووي
علي مسلم
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَنْزِل رَبّنَا كُلّ لَيْلَة
إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيب لَهُ ) هَذَا
الْحَدِيث مِنْ أَحَادِيث الصِّفَات ، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ
وَمُخْتَصَرهمَا أَنَّ أَحَدهمَا وَهُوَ مَذْهَب
جُمْهُور السَّلَف وَبَعْض الْمُتَكَلِّمِينَ : أَنَّهُ يُؤْمِن بِأَنَّهَا حَقّ عَلَى
مَا يَلِيق بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَأَنَّ ظَاهِرهَا الْمُتَعَارَف فِي حَقّنَا غَيْر
مُرَاد ، وَلَا يَتَكَلَّم فِي تَأْوِيلهَا مَعَ اِعْتِقَاد تَنْزِيه اللَّه تَعَالَى
عَنْ صِفَات الْمَخْلُوق ، وَعَنْ الِانْتِقَال وَالْحَرَكَات وَسَائِر سِمَات الْخَلْق
.
وَالثَّانِي : مَذْهَب أَكْثَر
الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَمَاعَات مِنْ السَّلَف وَهُوَ مَحْكِيّ هُنَا عَنْ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيِّ
: أَنَّهَا تُتَأَوَّل عَلَى مَا يَلِيق بِهَا بِحَسْب مَوَاطِنهَا . فَعَلَى هَذَا
تَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيث تَأْوِيلَيْنِ أَحَدهمَا : تَأْوِيل مَالِك بْن أَنَس
وَغَيْره مَعْنَاهُ : تَنْزِل رَحْمَته وَأَمْره وَمَلَائِكَته كَمَا يُقَال : فَعَلَ
السُّلْطَان كَذَا إِذَا فَعَلَهُ أَتْبَاعه بِأَمْرِهِ ، وَالتأويل الثَّانِي : أَنَّهُ
عَلَى الِاسْتِعَارَة ، وَمَعْنَاهُ : الْإِقْبَال عَلَى الدَّاعِينَ بِالْإِجَابَةِ
وَاللُّطْف . وَاللَّهُ أَعْلَم .
ثانيا : ما جاء في
فتح الباري في شرح صحيح البخاري :
( يَنْزِل رَبّنَا كُلّ لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُول : مَنْ
يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيب لَهُ )
قوله ينزل ربنا إلى السماء الدنيا استدل به من أثبات الجهة وقال هي جهة العلو
وأنكر ذلك الجمهور لأن القول بذلك يفضى إلى التحيز تعالى الله عن ذلك وقد اختلف في
معنى النزول على أقوال فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة تعالى الله عن
قولهم ، ومنهم من اجراه على ما ورد مؤمنا به على طريق الإجمال منزها الله تعالى عن
الكيفيه والتشبيه وهم جمهور السلف ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة ، ومنهم من
أوله على وجه يليق مستعمل في كلام العرب ، قال البيهقي واسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت
عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه ومن الدليل على ذلك إتفاقهم على أن
التأويل المعين غير واجب فحينئذ التفويض أسلم ، وقال بن العربي حكى عن المبتدعة رد
هذه الأحاديث وعن السلف إمرارها وعن قوم تأويلها وبه أقول فأما قوله ينزل فهو راجع
إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عباره عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه والنزول كما يكون
في الأجسام يكون في المعاني فإن حملته في الحديث على الحسي قتلك صفة الملك المبعوث
بذلك وأن حملته على المعنوى بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمى ذلك نزولا عن مرتبة إلى
مرتبة فهي عربية صحيحة (انتهى) ، والحاصل أنه تأوله بوجهين أما بان المعنى ينزل أمره
أو الملك بأمره وأما بأنه إستعاره بمعني التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه ، وقد
حكى أبو بكر بن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل ملكا ويقويه
ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد بلفظ : أن الله يمهل حتى يمضي
شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له الحديث وفي حديث عثمان بن أبي
العاص ينادي مناد هل من داع يستجاب له الحديث قال القرطبي وبهذا يرتفع الإشكال ولا
يعكر عليه ما في رواية رفاعة الجهني .
ووصفت بعض آيات الوحي الذات الإلهية بالقرب والمعية مثل
معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة
وإجماع السلف، قال الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ
رَابِعُهُمْ} إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} الحديد.
وقوله في سورة المجادلة: {وَلا أَدْنَى مِنْ
ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}. وقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، وقال تعالى لموسى وهارون حين أرسلهما
إلى فرعون: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، وقال عن
رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ
أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ
يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، وكقوله تعالى {وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا
هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ
وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}. ونحو قوله -تعالى-:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ} ، وكما في حديث أبي موسى المتقدم:" إن الذي تدعون أقرب إلى
أحدكم من عنق راحلته".
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول الله
تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي،
وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعًا،
وإن تقرّب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل
الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت" حسّنه شيخ الإسلام ابن تيميه في
العقيدة الواسطية، وقد أجمع السلف على إثبات معية الله تعالى لخلقه.
|
وتم الجمع بينهما في قوله سبحانه تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي
الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ
فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ}.
|
والمشكل هنا أن المعية قد توهم بالحلول أو الإتحاد أو وحدة الوجود
* ويلخص الشيخ
العثيمين القضية في فتواه فيقول رحمه الله :
ولقد انقسم الناس
في معية الله تعالى لخلقه ثلاثة أقسام :
القسم الأول: يقول: إن معية
الله تعالى لخلقه مقتضاها العلم والإحاطة في المعية العامة، ومع النصر والتأييد في
المعية الخاصة، مع ثبوت علوه بذاته، واستوائه على عرشه. وهؤلاء هم السلف. ومذهبهم هو
الحق، كما سبق تقريره.
القسم الثاني: يقول: إن معية
الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض، مع نفي علوه واستوائه على عرشه. وهؤلاء
هم الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم. ومذهبهم باطل منكر، أجمع السلف على بطلانه وإنكاره،
كما سبق.
القسم الثالث: يقول: إن معية
الله لخلقه مقتضاها أن يكون معهم في الأرض، مع ثبوت علوه فوق عرشه. ذكر هذا شيخ الإسلام
ابن تيميه (ص 229، ج 5) من "مجموع الفتاوى".
واعلم أن تفسير السلف لمعية الله تعالى لخلقه بأنه معهم بعلمه لا يقتضي الاقتصار
على العلم، بل تقتضي أيضا إحاطته بهم سمعا وبصرًا وقدرةً وتدبيرًا، ونحو ذلك من معاني
ربوبيته. وهذه المعية حق على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله تعالى، ولا تشبه معية
أي مخلوق لمخلوق، لقوله تعالى عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ}، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً
أَحَدٌ} وكسائر صفاته الثابتة له حقيقة على وجه يليق به ولا تشبه صفات المخلوقين. فالله
مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة"
وهذه المعية تقتضي الإحاطة بالخلق علما وقدرةً وسمعا وبصرًا وسلطانا وتدبيرًا،
وغير ذلك من معاني ربوبيته إن كانت المعية عامة لم تخص بشخص أو وصف، كقوله تعالى {وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ
رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا
أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ، فإن خصت بشخص أو وصف اقتضت مع
ذلك النصر والتأييد والتوفيق والتسديد.
ولا يمكن لقائل أن يقول: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، أو أنه مختلط بالخلق،
وهو سبحانه قد {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}؟.
وخلاصة القول في هذا
الموضوع كما يلي :
1- أن معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف.
2- أنها حق على حقيقتها على ما يليق بالله تعالى، من غير أن تشبه معية المخلوق
للمخلوق.
3- أنها تقتضي إحاطة الله تعالى بالخلق علما وقدرة وسمعا وبصرًا وسلطانا وتدبيرًا،
وغير ذلك من معاني ربوبيته، إن كانت المعية عامة، وتقتضي مع ذلك نصرًا وتأييدًا وتوفيقا
وتسديدًا إن كانت خاصة.
4- أنها لا تقتضي أن الله تعالى مختلطا بالخلق أو حالاً في أمكنتهم، ولا تدل
على ذلك بوجه من الوجوه.
5- إذا تدبرنا ما سبق علمنا أنه لا منافاة بين كون الله تعالى مع خلقه حقيقة وكونه
في السماء على عرشه حقيقة. سبحانه وبحمده لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
·
حرره الفقير
إلى الله تعالى: محمد الصالح العثيمين في 27/11/1413
* وفي شرح كتاب التوحيد
من صحيح البخاري للراجحي :
حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي، حدثنا الأعمش سمعت أبا صالح عن أبي هريرة -رضي
الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي،
وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في
ملأ خير منهم، وإن تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرّب إليّ ذراعًا تقربت
إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة .
الشرح: قوله: (أنا عند ظن عبدي بي،
وأنا معه إذا ذكرني): فيه إثبات المعية لله عز وجل معيه خاصة، وهي معية الله -تعالى-
مع الذاكرين بتوفيقه وإثباته وتسديده وحفظه، كما قال الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) فهي معية مع المتقين والمحسنين.
وقوله: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ فهي معية مع الصابرين بحفظهم
وتوفيقهم. وهي غير المعية العامة، التي هي معية الله تعالى مع الخلق كلهم. كما قال
تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ
) مع الخلق بإحاطته ونفوذ قدرته ومشيئته وعلمه وإطلاعه ونفوذ بصره فيهم، فهي تشمل الخلق
كلهم، مؤمنهم وكافرهم، فالله -تعالى- معهم بالعلم لا يخفى عليه شيء من عباده. كما قال
تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا
هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ
مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فافتتح أول الآية بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أن المعية
معية العلم والإحاطة، والاطلاع والقدرة والمشيئة.
فيجتمع في حق المؤمن المعية الخاصة والعامة، فهو مع الذاكرين بعلمه وإحاطته
وإطلاعه، ومعهم معية خاصة بتوفيقه وإعانته، وينفرد الكافر بالمعية العامة.
قوله: (أنا عند ظن عبدي بي): فيه أنه ينبغي للإنسان أن يحسن ظنه بالله تعالى.
قوله: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي..): هذا هو الشاهد إثبات النفس لله
تعالى. فهو -سبحانه- يذكر عبده في نفسه إذا ذكره في نفسه، وإذا ذكره عبده في ملأ ذكره
في ملأ خير منهم. قوله: (وإن تقرب إلي شبرًا،
تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليّ ذراعًا، تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته
هرولة): هذه كلها من الصفات الفعلية لله عز وجل. فتقرب الله -تعالى- من العبد إذا تقرب
إليه، وذكر الله -تعالى- للعبد إذا ذكره وإتيان الله -تعالى- إلى العبد إذا أتى إليه.
هذه كلها من الصفات الفعلية. لكن من ثمراتها أن الله -تعالى- أسرع بالخير إلى العبد
وأسرع بالإثابة من فعل العبد للطاعة، فهذه من ثمراتها، وليست هي الصفات. بعض المؤولين
كالنووي -رحمه الله- إذا أتى عند مثل هذه الصفات، فسرها فيقول في قوله: (تقربت إليه
ذراعا): أي: أن الله تعالى أسرع بالثواب من العبد. والصحيح أن هذا من ثمرات الصفة، وليست هي الصفة.
وما ذُكر في الحديث صفات فعلية تليق بالله -تعالى- لا نعلم كيفيتها، فنثبت أن
الله يذكر العبد إذا ذكره، وأن الله تعالى يتقرب إلى من تقرب إليه، وأنه -سبحانه- يأتي
من أتى إليه، وهذه الصفات الفعلية توصف بها نفس الله عز وجل.
ومثل هذا الحديث ، حديث: إن الله لا يمل حتى تملوا هذه صفة لله -عز وجل-، فهو
-سبحانه- أثبت أنه لا يمل حتى يمل العبد. وهي صفة ليس فيها نقص، مثل ملل المخلوق، لكن
من ثمراتها أن الله -تعالى- يقطع الثواب إذا قطع الإنسان العمل. وأهل التأويل يقولون
في قوله: (إن الله لا يمل حتى تملوا) يقولون: المعنى أن الله -تعالى- يقطع الثواب إذا
قطع العبد العمل، والصواب أن هذا من ثمرات، وآثار الصفة، وليست هي الصفة.
فائدة: يثبت لله -تعالى- الإتيان لمن
أتى إليه أن من أتى إليه يمشي أتاه هرولة من باب المقابلة، ولا يقال: إن من صفات الله
-تعالى- الهرولة،ولا يقال من صفات الله الماكر، بل يقال: إن الله يكيد من كاده.
فالكمال في المقابلة، فلا يقال من صفات الله -تعالى- أنه يمشي ومن صفاته الهرولة،
بل على لفظ الصفة؛ لأنه لا يشتق من الصفات الفعلية أسماء له سبحانه وتعالى.
وفي كتاب القواعد المثلي في صفات الله وأسمائه الحسني
للعثيمين:
قواعد في صفات الله تعالى:
يلزم في إثبات الصفات التخلي عن
محذورين عظيمين: أحدهما: التمثيل. والثاني: التكييف.
فأما التمثيل: فهو اعتقاد المثبت أن
ما أثبته من صفات الله تعالى مماثل لصفات المخلوقين، وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع
والعقل. والتشبيه كالتمثيل، وقد يفرق بينهما
بأن التمثيل التسوية في كل الصفات، والتشبيه التسوية في أكثر الصفات،لكن التعبير بنفي
التمثيل أولى لموافقة القرآن:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(94).
وأما التكييف: فهو أن يعتقد المثبت
أن كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا، من غير أن يقيدها بمماثل. وهذا اعتقاد باطل بدليل
السمع والعقل.
ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا؛ لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبرنا
عن كيفيتها، فيكون تكييفنا قفواً لما ليس لنا به علم.
ولهذا لما سئل مالك - رحمه الله تعالى
- عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)(97) كيف استوى؟ أطرق رحمه
الله برأسه حتى علاه الرحضاء (العرق) ثم قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير
معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" وقد مشى أهل العلم بعدهما على هذا
الميزان. وإذا كان الكيف غير معقول ولم يرد به الشرع فقد انتفى عنه الدليلان العقلي
والشرعي فوجب الكف عنه.
* وفي قوله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}، وقوله
في سورة المجادلة: {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ
مَا كَانُوا}.
والجواب: أن الكلام في هاتين الآيتين حق على حقيقته وظاهره. ولكن ما حقيقته
وظاهره؟. هل يقال: إن ظاهره وحقيقته أن الله
تعالى مع خلقه معية تقتضي أن يكون مختلطا بهم، أو حالاً في أمكنتهم ؟
أو يقال: أن ظاهره وحقيقته أن الله تعالى مع خلقه معية تقتضي أن يكون محيطا
بهم علما وقدرةً وسمعا وبصرًا وتدبيرًا وسلطانا، وغير ذلك من معاني ربوبيته، مع علوه
على عرشه فوق جميع خلقه ؟.
ولا ريب أن القول الأول لا يقتضيه السياق، ولا يدل عليه بوجه من الوجوه، وذلك
لأن المعية هنا أضيفت إلى الله عز وجل، وهو أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته،
ولأن المعية في اللغة العربية التي نزل بها القرآن لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة
في المكان، وإنما تدل على مطلق المصاحبة، ثم تفسر في كل موضع بحسبه.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: "لا تحزن إن الله
معنا" كان هذا أيضا حقا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية
الإطلاع والنصر والتأييد).
ثم قال: "فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل
موضع أمورًا لا يقتضيها في الموضع الآخر. فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل
على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كل موضع بخاصية، فعلى التقديرين ليس مقتضاها
أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها" اهـ.
* وقال شيخ الإسلام ابن تيميه في "العقيدة الواسطية" (ص 142، ج
3) من "مجموع الفتاوى" لابن قاسم، في فصل الكلام على المعية، قال:
"وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش، وأنه معنا، حق على حقيقته،
لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة"اه.
المناقشة
يمكن تلخيص راي كثير من علماء السلف في السعودية ومن
تبعهم في قضية المعية من خلال فتوى للرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد في السعودية 27/7/1404هـ يقول فيها :
فعقيدتنا أن لله تعالى معية ذاتية تليق به،
وتقتضي إحاطته بكل شيء علما وقدرة، وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا، وأنه سبحانه منزه
أن يكون مختلطا بالخلق، أو حالا في أمكنتهم، بل هو العلي بذاته وصفاته، وعلوه من
صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلاله، وأن ذلك لا
ينافي معيته، ثم صرح أنه قال ذلك مقررا له، ومعتقدا له، منشرحا له صدره.
|
لاحظ هنا ان سبب التكفير القول بأن الله
بذاته حال في المكان وهذا حق لا ريب فيه فكيف يحل من لا يحده حد ولا يدركه وصف في
من هو في حكم العدم ، او كيف تحل دائرة المحيط العظيم في نقطه الدائرة التي لا
تري ( وكيف يلج الجمل في سم الخياط ) .
|
وعقب المفتي : وأقول: لا
يخفى على من له علم وفهم ما في كلام الكاتب من التناقض، والجمع بين النقيضين،
وموافقة من يقول من الحلولية: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان،
وما فيه أيضا من مخالفة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.
فأما التناقض : ففي تقريره لمعية الله الذاتية لخلقه مع زعمه أن هذه
المعية الذاتية لا تقتضي الاختلاط بالخلق، ولا الحلول في أماكنهم، ولا يخفى على
عاقل أن المعية الذاتية للخلق تستلزم مخالطتهم والحلول في أماكنهم. وعلى هذا فمن
أثبت المعية الذاتية للخلق ونفى مخالطتهم، والحلول في أماكنهم، فقد تناقض شاء أم
أبى.
|
وقد يرد علي هذا بما قاله ابن تيمية في
الفتاوي : ((وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا
المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال)) ،بمعني ان
المعية لا تعني الحلول او الإتحاد
|
وقد ذكرابن تيمية في " الفتوى الحموية
الكبرى " عن سلف الأمة وأئمتها أئمة أهل العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة
أنهم أثبتوا أن الله فوق سمواته على عرشه , بائن من خلقه وهم بائنون منه . وهو
أيضاً مع العباد عموماً بعلمه , ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية ,
وهو أيضاً قريب مجيب .
وقال رحمه الله : وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما
ذكر من علوه وفوقيته , فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته , وهو عليّ في
دنوه , قريب في علوه . ويعلق الشارح : وأما قول شيخ الإسلام : وهو عليّ في دنوه ,
قريب في علوه , فمراده بالدنو نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين
يبقى ثلث الليل الآخر كما جاء ذلك في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه
وسلم . وكذلك دنوه من أهل الموقف عشية عرفة , فقد جاء في حديث مرفوع : أن الله
تعالى يهبط إلى سماء الدنيا عشية عرفة فيباهي بأهل الموقف الملائكة . وليس في
نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا في آخر الليل وفي عشية عرفة ودنوه من
خلقه ما يقتضي أن تكون معيته لهم معية ذاتية , وليس في كلام شيخ الإسلام ما يدل
على ذلك .
وفي هذه النصوص مشاكل عميقة سنعرض لها في
حينها ، ومن المشكل في تلك القضية قول ابن القيم في " مختصر الصواعق "
على قرب الله تعالى : فهو قريب من المحسنين
بذاته ورحمته
قرباً ليس له نظير , وهو سبحانه مع ذلك فوق سمواته على عرشه , كما أنه سبحانه يقرب
من عباده في آخر الليل , وهو فوق عرشه ويدنو من أهل عرفة عشية عرفة وهو على عرشه .
قال : وهو سبحانه قريب في علوه , عالٍ في قربه .
وبعد هذا الملخص من أراء السلف في قضية المعية نلاحظ ما يأتي :
أننا بصدد قضيتان : قضية تأويل بعض
الصفات ، وقضية تحقيق المعية
وبالنسبة إلي الصفات : اتفق علماء السلف علي أنه يلزم في إثبات
الصفات التخلي عن محذورين عظيمين: أحدهما: التمثيل. والثاني: التكييف وأن ما وصف الحق به ذاته من أوصاف كالاستواء والإتيان والنزول والمعية وغيرها
يجب التسليم بها كما أنزلت ، بلا تكييف أو تمثيل أو تعطيل ، وغير مسموح بالتأويل إلا
بضوابط من الوحي . ومع وجاهة ذلك الاعتقاد وصدقه فانه يفتح الطريق إلي تساءل :
إذا كان التكييف ممنوع والتأويل مقطوع فكيف يتعامل العقل
المكلف مع الوحي المنزل في هذه القضايا الهامة ؟
وبالنسبة إلي المعية : اتفق اغلب علماء السلف على أن القول بالمعية الذاتية
لله مع خلقه فسق وضلال لأنه يعني الحلول والإتحاد بين الخالق والمخلوق ، وكيف يحل
الذي لا حد له في المحدود ؟ وكيف يتحد من ليس كمثله شيء بمن لا يكاد يبين ؟
وقالوا أن الله بذاته في السماء وانه مع خلقه
بالعلم والقدرة والإحاطة والهيمنة والتأييد ( ولقد نسب القول بالمعية الذاتية
للخالق مع خلقه لأبن القيم وغيره وأيضا
للشيخ العثمين بضمان أنها معية – بلا حلول أو اتحاد - تليق بمن ليس كمثله شيء ، وقد رجع الشيخ
العثيمين عن ذلك) وما ذهب إليه علماء
السلف الأفاضل في تكفير من يقول بالمعية الذاتية بين الخالق والمخلوق هو خوفهم مما
يترتب عليه ذلك من الضلال في إعتقاد الحلول والإتحاد ووحدة الوجود .
ومع صدق نية من قالوا بان الله بذاته فوق
عرشه بائن عن خلقه ، ونفوا المعية بالذات مع خلقه وقالوا بمعية الصفات ( هو معهم
علما وسمعا وبصرا وقدرة وغير ذلك ) فان ذلك يثير تساؤلات تحتاج إلي إجابات يطمئن
بها القلب مثل :
هل ذوات المخلوقات متخارجة عن ذات الخالق بمعني أن تكون
ذات الخالق في جهة وذوات المخلوقات في جهة متخارجة عنها والصفات تشكل همزة الوصل
بينهما ؟ وهل الصفات كينونة غير الذات ؟
الإجابة بنعم يجر إلى التحديد والتجسيم
والنقصان وحاشا لله ان يوصف بذلك .
وكان سبب تلك المشكلات الخطرة والمحيرة والتي
تقود إلي الاختلاف والشقاق بل والتكفير ، كان السبب هو عدم تحرير قضيتين أساسيتين
هما :
1- قضية العلاقة بين الوحي والعقل ( القلب )
2- قضية العلاقة الوجودية بين الخالق والمخلوق .
تحرير القضية الأولي وهي : العلاقة بين الوحي
والعقل ( القلب ) فنقول:
الوحي كلام الله والعقل ( القلب ) خلق الله
ليكون مهبطا للوحي ، وللعقل المكلف خاصيتان ، خاصية التعامل مع قوانين كون مشاهد
وخاصية التواصل مع الغيب ، والمخ ( أداة العقل ) مبني وفقا لقوانين كون محسوس يحيط
به ، قوانين ثابتة كالجبال وكالشمس والقمر والنجم والشجر، لتكون مدارج اليقين في
رحلة العقل ليطل إلي الغيب وكأنه يراه فيؤمن ( يوقن ) ولقد أفردنا لذلك بحث عن (
الوحي والكون والمخ والعقل والقلب ) .
وللوحي خطابين للعقل ( القلب ) خطاب يشير إلي
عالم الشهود وخطاب يشير إلي عالم الغيب ، ومن خلال قوانين عالم الشهود المسجلة –
من خلال أدوات الحس - في ذاكرة المخ يستطيع العقل الكوني فهم والتعامل مباشرة
مع آيات عالم الشهود ، ولكن بالنسبة للغيب فليس للعقل قدرة أو أدوات مباشرة
للتواصل مع (مما لا عين رأت
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) كما أشار الوحي ((وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ
رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ
انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا
تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا
أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
الأعراف
وكما جاء في الشوري : (( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) الشوري
وهنا سؤال هام : إذا كان العقل ليس
لديه قدرة أو أدوات مباشرة للتعامل مع الغيب فكيف يفهم الآيات النازلة لتصف له
خالقه في تواصله مع خلقه ؟
الإجابة : للعقل المكلف خاصية فريدة قدرها فيه العليم الحكيم
وهي : أن باستطاعة العقل الباحث عن الحكمة ( القلب ) أن يرحل علي سلم الأسباب في آيات
عالم الشهود ليطل إلي الغيب وكأنه يراه فيؤمن بالله وما له من صفات الكمال ، ويؤمن
بصدق ما جاء في وحيه الحق ويسلم بما جاء فيه من صفات توهم التمثيل ، فيثبتها كما
نزلت ولا يكيفها او يمثلها ، وأيضا لا يعطلها ، بل يفهم منها ما يناسبها من
صفات الكمال لمن له صفات الكمال ، مثل القدرة والقوة والمتانة والإحاطة والهيمنة
والرضا والرحمة والتأييد والمحبة .
تحرير القضية الثانية وهي : العلاقة الوجودية بين
الخالق والمخلوق( المعية)
وهي من اخطر القضايا التي حيرت أجيال من
العلماء وترتب عليها صراع وتفسيق وتكفير ، وكان سبب ذلك الاعتقاد بأن معية الله
بذاته تقتضي حلوله في كون لا يكاد يذكر تحت عرشه ، وهذا هو بيت الداء كيف ؟ إن من تلبيس الشيطان علي العقل
المكلف هو : دفعه إلي الاعتقاد بان معية الله تعني حلوله أو اتحاده
بذاته في ذوات المخلوقين ، وهذا محض ضلال أو جنون ، وحقيقة المعية أن تكون
المخلوقات في معية الله بلا حلول أو اتحاد ، وهذا ما سوق نحققه في البحث التالي
وفقا لضوابط من الوحي الخالد فنقول وبالله التوفيق :
هناك حديث صحيح : [
كان الله ولم يكن شيء قبله أو غيره أو معه ثم خلق السماوات والأرض]
وآية في سورة الحديد : (هُوَ
الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يبينها حديث صحيح : (أَنْت
الأول فَلَيْسَ قبلك شَيْء وَأَنت الآخر فَلَيْسَ بعْدك شَيْء وَأَنت الظَّاهِر
فَلَيْسَ فَوْقك شَيْء وَأَنت الْبَاطِن فَلَيْسَ دُونك شَيْء)
ولنبدأ بالحديث الصحيح ( كان الله ولم يكن شيء قبله أوغيره أو معه
ثم خلق السماوات والأرض ) يشير
هذا الحديث العظيم إلي أن
الله سبحانه هو الإسناد الأول
الذي منه يخلق كل شيء ، وعنده تنقطع سلسلة الأسباب أو العلل ، وبه تبدأ السلسلة من
العدم ، وأيضا يشير إلى أن المخلوقات نشأت
من العدم (وهذا ما يؤكده العلم الحديث في أدق بحوثه) والمقصود بالعدم هنا العدم
المطلق ( ألاشيء) والعدم المقيد ( بين الأطوار ) .
|
لطيفة قلبية : وهذا الحديث الصحيح المتعدد القراءات ( لم يكن شيء قبله أو معه
أو غيره ) يرد علي تلبيس يمس صفاء العقيدة ،الذي منه القول بالتسلسل الآنهائي
للعلل ، ومنه القول بوجود قديمين ، والقول
بتسلسل العلل إلى ما لا نهاية تعني أن كل
معلول تسبقه علته وعلته تسبقها علتها بلا نهاية ، وبهذا الاعتقاد يصبح وجود
المعلولات وهما وباطلة عقلا ، لأن من ليس له إسناد أول يصدر عنه فهو في حكم
المعدوم ، وعند هذا الإسناد الأول تنقطع سلسلة العلل ليكون هو علة العلل والتي
تبدأ منه سلسلة الحوادث ( وهذا ما تحققه قراءة لم يكن قبله شيء ) فهو أول كل شيء
، والقول
بوجود قديمين أزليين متلازمين
وهما : الخلاق وجواهر الكون الأولية ، وسبب هذا الضلال هو الفهم المنحرف للمنطوق
الصحيح للحديث الذي يقول : ( كان الله ولم يكن معه أو غيره ) ، بان قالوا
إن هذا المنطوق يؤدي إلي تعطيل صفات الكمال لله ، فكيف يكون خالقا ومتكلما وكيف
يكون سميعا وبصيرا وفعالا ولا شيء معه ، وقالوا بحتمية تعطيل تلك القراءات
واثبات القراءة ( ولم يكن شيء قبله ) وهي أيضا قراءة صحيحة ، ولكن قصدوا من
ورائها أن يثبتوا حتمية وجود جواهر فردية أزلية قديمة لا تسبق الله ولكن متلازمة
مع وجود صفات كماله ، ومن خلال تلك الجواهر يخلق ويأمر ويسمع ويري ،وهم بذلك
الفكر المغلوط يحولون الممكن ألعدمي إلي واجب الوجود القديم الأزلي وهذا باطل
عقلا وشرعا ، فواجب الوجود بذاته لا بد وان تكون صفاته واجبة بذاتها أيضا
، فلا حاجة إلي ملازم مكمل ،لأن افتراض المكمل يقتضي تحول الواجب بذاته إلي واجب
بغيره وفي هذا إبطال لصفات الكمال للواحد الأحد الغني بذاته .
|
ونعود
فنقول : تصف الآية والحديث الخلاق سبحانه بأنه الأول الذي ليس قبله شيء والأخر
الذي ليس بعده شيء والظاهر الذي ليس فوقه سيء والباطن الذي ليس دونه شيء ليعلم
العقل انه – سبحانه - لا شريك له في القدم والأزلية وان كل شيء هالك إلا وجهه وان
لا مكان للحوادث المخلوقة من العدم إلا في معية خالقها المحيط .
* وبعد العدم ظهر كل شيء مخلوق لله ( الأشياء كلها بما فيها الزمان
والمكان والكرسي والعرش ) ولم يكن ظهورها دفعة واحدة كما نراه الآن بل كان ظهورها
في أطوار ، كان منها اعظم مخلوق وهو العرش ، وفي بداية خلق السماوات والأرض كان
خلق الدخان الأول الذي يتمثل في جسيمات أولية وطاقات تموج في حركة لا نظامية
متداخلة كما يحدث في الدخان الملتبس بطاقة عالية ، وهذا ما أكده العلم الحديث في
ما يسمى ( الانفجار الكبير ) الذي يؤكد أن الكون ( المشاهد ) نشأ من انفتاق حدث في
سحابة من الجسيمات شديدة السخونة ، وترتب عن ذلك تمزق ( تفتق ) تلك السحابة إلى
قطع كانت نواة لبداية كون آخذ في التمدد ، وفي إشارات القرآن عن هذا الحدث معجزة
علمية بكل المقاييس فقد جاء في : سورة
فصلت آية 11 (( ثم استوي إلى السماء وهي
دخان )) وفي سورة الأنبياء آية 30 ((
أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء
كل شيء حي )) وفي
الذاريات (( وَالسَّمَاءَ
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47))
تقول
الآيات بوضوح أن السماوات والأرض كانتا شيئا واحدا عبارة عن ( دخان ) وحدث فيه حدث
قطعه ليبدأ في التمدد مكونا أطوار كون مقدر يظهر فيه النظام من عدم النظام
ثم تنشأ فيه الحياة من عدم الحياة ثم ينشأ العقل من عدم العقل ، في
أطوار تتصاعد إلى هدف غايته الكمال ليجهز الكون لاستقبال الخليفة المكلف ( الإنسان
) بعقله المتافيزقي الراقي ( القلب ) .
وللتفهيم يمكن القول بأن الكون بعناصره وزمانه
ومكانه نشأ من العدم ( كفقاعة ) تتمدد في أطوار كل طور يسبقه العدم ( عدم الطور )
حتى وصل إلي ما نشاهده الآن من كون بديع ومنظم ، وهنا تظهر تساؤلات هامة : من أي
شىء ظهرت تلك الفقاعة ؟ وفي أي شيء تنموا وتتمدد تلك الفقاعة (حيث لا يوجد زمان أو مكان تنموا فيه الفقاعة
لأنها هي بداية الزمان والمكان وكل شيء ) ؟ ، وإذا كان لا بد لفقاعة الكون من
إسناد تخرج به وتنمو فيه ، فما هو ؟
ولأهمية وخطر تلك القضية نضرب الأمثال للتقريب
والتفهيم ولا نقصد منها التكييف أو التحديد أو التشبيه ، فنقول وبالله التوفيق :
1- المثل الأول : مستمد من الكتاب والسنة كما يأتي : في حديث صحيح
رواه البخاري : قال صلى الله عليه وسلم ((مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ
إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ
كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ )) فلنرسم حلقة صغيرة ( أو كرة ) تمثل مجمع السماوات والأرض داخل محيط
حلقة أكبر منها بكثير تمثل الكرسي ويحيط بكل ذلك حلقة عظيمة فوق كل تلك الحلقات انه
العرش ، ولا يمكن أن يتخيل عقل إمكان أن تحل دائرة الكرسي الكبيرة جدا في حلقة السماوات
والأرض الصغيرة جدا ( فهل يلج الجمل في سم الخياط ) ولا مكان لحلقة السماوات والأرض
إلا في معية حلقة الكرسي الواسعة ، وقس على ذلك العرش العظيم بالنسبة إلى الكرسي ،
وعلى العقل أن يتفكر في ما إذا كانت تلك السعة والإحاطة من صفات مخلوقات في حكم العدم
بالنسبة إلى خالقها العظيم ، فكيف نصف المحيط العظيم - سبحانه - الذي لا يحده حد ولا
يدركه وصف .
|
وهناك حديث صححه الألباني في ظلال السنة يقول : أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ , فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جُهِدَتِ الْأَنْفُسُ، وَضَاعَ
الْعِيَالُ، وَهَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا، فإِنَّا نَسْتَشْفِعُ
بِكَ عَلَى اللَّهِ، وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: " وَيْحَكَ، تَدْرِي مَا تَقُولُ، فَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ،
فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوِهِ أصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ:
وَيْلَكَ، لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ
أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ مَا تُدْري مَا اللَّهُ؟، إِنَّ الله على
عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرَاضِيهِ هَكَذَا " , وَأشار بِأَصَابِعِهِ
الخمس مِثْلَ الْقُبَّةِ وأشار يحي أبن معين بأصابعه كهيئة القبة ، وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ
أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ " ذكره
الإمام الحافظ ابن عبد البر في كتابه التسديد شرح حديث النزول من كتاب التمهيد
|
2- المثل الثاني : لو مثلنا رياضيا
للخلاق بالواحد (1) وله المثل الأعلي ومثلنا للمخلوق بالصفر(0) وهي حقيقة ذاته ، فهل
يتغير الواحد لو أضفنا إليه عدد لا يحصي من الأصفار(1+0 00 = 1).
ومن اسماء الله وصفاته ( المحيط )
ويصفه صلى الله عليه وسلم (أَنْت الأول فَلَيْسَ قبلك شَيْء وَأَنت الآخر فَلَيْسَ
بعْدك شَيْء وَأَنت الظَّاهِر فَلَيْسَ فَوْقك شَيْء وَأَنت الْبَاطِن فَلَيْسَ دُونك
شَيْء) وهنا علينا ان نعود للحديث الصحيح : ( كان الله ولم يكن شيء قبله أوغيره أو
معه ثم خلق السماوات والأرض ) يشير هذا الحديث العظيم إلي أن الله سبحانه هو الأول
الذي يخلق كل شيء ، وعنده تنقطع سلسلة الأسباب أو العلل ، ومنه تبدأ السلسلة من العدم.
ولأنه
لا يوجد شىء أو جهة متخارجة عن المحيط سبحانه لأنه ليس قبله ولا بعده ولا فوقه ولا
دونه شىء ، اذن لا وجود للمخلوقات إلا في معية المحيط سبحانه بلا حلول أو إتحاد
، فكيف يحل أو يتحد الحادث الذي هو في حكم العدم في القديم الأزلي الذي ليس كمثله شىء
؟.
وآيات
الكتاب والسنة أنبأتنا بأن مقام كل المخلوقات في معية الله كما يأتي :
1- الدليل من القرآن : إِلَّا
تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ
اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ
اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ
بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى
وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) التوبة
وفي سورة
الحديد
:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ
مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)
وفي سورة ق16:
(( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ))
وفي
المجادلة : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى
ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا
أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا
كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 7
وفي
القصص : فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ
الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ
مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ
الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ (30) وفي النمل : فَلَمَّا
جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ
اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (9)
2- الدليل من
صحاح كتب الحديث : في البخاري : قال صلى
الله عليه وسلم لصاحبه في الغار : مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ،
وفي فتح الباري باب
النزول
: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( يَنْزِلُ
رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ
يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ
مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ )
|
الخلاصة
: لا نقول هنا بحلول الله بذاته في كونه – فهذا ضلال أو جنون – فهل يحل البحر في
قطرة الماء ، وهل يلج الجمل فى ثم الخياط
، بل نقول أن المخلوقات هي التي في معية الله بلا حلول أو اتحاد . والمعية في اللغة
العربية التي نزل بها القرآن لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان، وإنما تدل
على مطلق المصاحبة.
|
* وهنا يجد سؤالا هو : كيف
يكون الكون(في)وفي نفس الوقت بلا حلول أو إتحاد ؟
الإجابة
علي هذا السؤال يقتضي الإجابة علي سؤال هام قبله هو :
هل
فارقت صفة العدم ذوات الحوادث ( الممكنات ) حال خلقها ( في وجودها المدرك ) ؟
أقصد من ذلك : هل
أصبحت الحوادث الممكنات واجبة الوجود بذاتها ؟
تتطلب
أللإجابة العلمية علي هذا السؤال الخطير إلي : تحقيق شرعي ( من علوم الوحي )
وتحقيق كوني ( من علوم الفيزياء )
أولا :
التحقيق الشرعي :
هناك
أحكام عقلية ثابتة ، لخصت في البيت
التالي :
أقسام
الحكم العقلي لا محالة هي
الوجوب ثم الاستحالة
ثم
الجواز ثالث الأقسام
فافهم منحت لذة الإفهام
وهذه
الأحكام من بدهيات العقول فكل عاقل يعرف يقيناً أن الأشياء كلها إما مستحيلة
الوجود، أو واجبة الوجود بذاتها، أو غير واجبة الوجود بذاتها (ممكنة) ولا يستطيع العقل في تقلبه الفكري أن يجد إلا
هذه الأحكام النهائية .
يقول العلامة ( المرعشي ) في كتاب التوحيد
المسمى نشر الطوالع :
الحادث = أي شيء لم
يكن موجودا ثم أصبح موجودا.
الممكن (الجائز) : بالنسبة إليه يستوي وجوده وعدمه فلا مرجح للوجود والعدم من ذاته ،
فإن وجد يكون حادثا لأنه قد ثبت أنه لا يوجد إلا بسبب، ويقول رحمه الله : الإمكان
علة للحاجة أي الإمكان يحوج الممكن إلى السبب أي المؤثر ، لأن الإمكان استواء طرفي
الوجود والعدم للمكن بالنسبة إلى ذاته ، والممكن يستصحب الاحتياج إلى المؤثر حال
بقائه.
أحكام الواجب لذاته = القدم - البقاء - نفي التركيب .
1-
القدم : الواجب لذاته لا بد أن يكون
قديماً أزلياً لأنه لو لم يكن كذلك لكان حادثاً والحادث ما سبق وجوده بالعدم ،
فيكون مسبوقا بالعدم ، وكل ما سبق بالعدم يحتاج إلى علة تعطيه الوجود ( فلا يكون
واجبا لذاته بل واجبا لغيره )
2-
البقاء : من أحكام الواجب لذاته أن لا
يطرأ عليه عدم وإلا لزم سلب ما هو للذات عنها ، وهذا يعود إلى سلب الشيء عن نفسه
وهو محال عقلاً .
3-
نفي التركيب : لأنه لو تركب لتقدم كل جزء من أجزائه على وجود
جملته التي هي ذاته ، وكل جزء من أجزائه غير ذاته بالضرورة فيكون وجود جملته
محتاجاً إلى وجود غيره وقد سبق أن الواجب ما كان وجوده لذاته .
ويقول صاحب ( مهذب كتاب الطوالع للبيضاوي ) :
1-
الواجب لذاته ينافي الوجوب لغيره أي الواجب لذاته لا يكون واجباً لغيره وإلا لزم
من ارتفاع غيره ارتفاعه لوجوب ارتفاع المعلول عند ارتفاع العلة .
2-
الواجب لذاته ينافي التركيب في ذاته إذ لو تركب الواجب لذاته لاحتاج إلى جزئه وجزء
الشيء غير الشيء ذاته ، والمحتاج إلى غيره ممكن
.
وأشياء
الكون كلها تقبل الوجود والعدم ، وقبول الوجود لها ظاهر مشاهد ، وأيضاً قبولها
العدم ظاهر من وجود أشياء منها بعد أن لم تكن ، وهلاكها بعد أن كانت .
وما
يقبل الوجود والعدم لا يكون موجوداً إلا بوجود موجد ، ولا يكون الوجود ضرورياً له
رغم وجوده المحسوس ، ولكن موجده غير المحسوس ضروري أن يكون موجوداً بشهادة العالم
المحسوس على وجوده .
وبمعنى
آخر : كل حادث يلزم أن يكون ممكناً لا
مستحيلاً وإلا لما حدث ، ولا واجباً وإلا لما سبقه العدم .
ولأننا
نتعامل في الكون مع أشياء متحققة الوجود وهي جزيئات الكون الظاهرة لنا كحقائق
معاينة فإما أن تكون هذه الأشياء قد وجدت بالصدفة أو بالضرورة أو بالقصد
والإرادة .
*
وجودها بالصدفة يقتضي وجود معلول بلا علة وهذا باطل عقلاً .
*
وجودها بالضرورة يقتضي أن الأشياء على ما هي عليه الآن كانت كذلك منذ الأزل (
الواجب لذاته ) وهذا محال عقلاً فكل أجزاء
الكون التي نتعامل معها من حيوان ، وإنسان ، ونبات ، وجماد مسبوقة بالعدم ( عدمها
) وتنتهي إلى العدم ، بل في وجودها مركبة من فقر الزوجية .
الخلاصة
: أن الكون من حولنا من الحوادث الممكنات ، فهو حادث لأنه مسبوق بالعدم ، وهو
ممكن لأنه ليس بواجب لذاته وليس مستحيلا ، ليس واجبا لذاته لأنه حادث ، وليس
مستحيلا لأنه حق معاين . ( والممكن
في ذاته مكافئ للعدم )
ثانيا التحقيق الفيزيائي : ولقد أفردنا كتاب كامل ( فلسفة العدم ) بسطنا فيه الأدلة العلمية
التي تحقق عدمية الكون من البداية الي النهاية ، والتي يمكن تلخيصها فيما يأتي : إن
اكبر علماء الفيزياء يؤكدون أن الكون نشأ من العدم ، بل هو في حالته المنظورة مكافئ
للعدم لأن محصلة جسيماته وشحناته وأمواجه = صفر ، وكتلة جواهره الأولية = صفر ( بمعني
لاشيء) وهاهو الوحي العالمي الخالد يشير إلى ذلك في سورة فاطر آية 41 ((
إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ))
ويعقب
سبحانه ((
ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده )) وفي ذلك إشارة إلى أن السماوات والأرض في ذاتها زائلة في الحال وترجيح
وجودها من عدمها بقيومية ( كن ) ويؤكد ذلك ما جاء في القصص ((
كل شيء هالك إلا وجهه )) وهالك هنا اسم
فاعل يشير إلي أن الهلاك في الحال ( ولقد شرحنا وحققنا ذلك في كتاب فلسفة العدم )
.
نعود إلي السؤال
السابق :
هل أصبحت
الحوادث الممكنات- بعد خلقها - واجبة الوجود بذاتها ؟
الإجابة : لا لأنها لا ينطبق عليها أحكام الواجب بذاته (
القدم والبقاء ونفي التركيب ) فهي حادثة من العدم ( ليس قديمة ) وحتما ستهلك ( ليس
باقية ) وهي مركبة( ارجع إلي التحقيق)
ولأن ذوات الحوادث عدم اكتسب وجوده
بأمر كن فكان كما قال خالقه ، وكما أن العدم صفة ذاتية ملازمة للحوادث ، فأن
قيومية (كن) لازمة لبقاء كينونة الحوادث ثابتة الوجود والدوام .
وهنا نعود إلي السؤال المشكل الأول الذي هو : كيف يكون
الكون(في) معية الله وفي نفس الوقت بلا حلول أو إتحاد ؟
الإجابة : لأن الحلول والإتحاد يقتضي المشابهة
والمشاكلة ، ولا مشابه هنا بين الحوادث الممكنات ومن ليس كمثله شيء ، وكذا المعدوم
في ذاته لا يحل في الموجود بذاته ولا يشكل إضافة إليه ونسبة المعية هنا فعل أمر
الخلق ( كن ) .
لم الشمل
نتفق
مع ما ذهب إليه العلماء الأفاضل في الشروط التي وضعوها للتعامل مع صفات من ليس
كمثله شيء ، بألا تمثيل ولا تكيف بل نثبتها كما أنزلت ، ولكن في نفس الوقت علينا
أن لا نعطلها بل نفهم منها ما يليق بصفات من له الكمال وليس كمثله شيء ، نفهم منها
العظمة والقدرة والسلطان والهيمنة والتأييد والرحمة والمحبة وغير ذلك .
ونؤمن
بأحدية الذات وتعدد الصفات ، ولأن الله واجب الوجود لذاته فهو غني بذاته عمن سواه
وكذا صفاته ، وأيضا الصفات شئون الذات في خلقه في كل أحوالهم ، وإذا كان – سبحانه –
هو الغني بذاته وصفاته ، فمخلوقاته فقراء إليه في كل آن .
ونؤمن
باستحالة حلول الله بذاته في مخلوقاته ، فلا نسبة بين من لا يحده حد ولا يحيط به
وصف ، وبين من هو في حكم المعدوم بذاته ولا يكاد يكون له جرم يذكر تحت محيط العرش .
ونؤمن
بأنه لا مكان لمخلوقات الله إلا في معيته بلا حلول أو اتحاد ، لأنه من المستحيل أن
يوجد شيء - بما فيه الكرسي والعرش والزمان والمكان – متخارج عن معية الذات ، فهو ( المحيط ) الذي ليس قبله ولا بعده ولا فــوقه
ولا دونــه شيء , ولا يتخيل ثغرة متخــارجة عن ذلك المحيــط ( فلا ملجأ ولا منجى
منه إلا إليه ) والكون كله ( المخلوقات ) يشكل فقاعة صغيرة تكافئ العدم مغمورة في
( المحيط ) وفي ذلك المحيط تتنزل الأسماء كيف شاء ومتى شاء ليتحقق شؤون من خلق
معدوم وإهلاك موجود ومن نصرة مظلوم وقهر جبار ظالم ، واستجابة لداعي وغير ذلك من
الشؤون ( فكل يوم هو في شأن ) .
وليس
من حقيقة المعية أن يحل الخالق اللامحدود
في المخلوق الذي يكافئ نقطة الصفر في المحيط ( فهل يلج الجمل في سم الخياط
) بل حقيقة المعية أن يكون المخلوق في المحيط .
ومع
المعية بتحقق العلو ، فهو سبحانه عال بذاته – عال بكل المقاييس – وما الكون الا
فقاعة في حكم العدم مغمورة في محيط واجب الوجود بذاته الذي وسع كرسيه السماوات
والأرض والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في صحراء واسعة فما بالك والذات .
ومن
خلال هذا الفهم للمعية يمكن أن نقترب من فهم الاستواء والفوقية والنزول والإتيان ،
وأيضا خطاب الله لموسي من النار عند الشجرة وتجلي الله للجبل - وكلها أمور على
الأرض – ويكون فهمنا بلا تكييف أو تمثيل أو تجسيم أو تعطيل والله اعلي واعلم ولا
حول ولا قوة إلا بالله
خلاصة الخلاصة
|
|
|
لا يعقل أن تحل الدائرة في نقطتها ولكن الدائرة تستوعب عددا لا يحصي من
النقط ،فكيف يحل المحيط في النقطة ، وكيف يحل أو يتحد اللآمحدود في اللاشيء
|
الكون في البداية : عدم مطلق+ كن = بداية الخلق في معية الله بلا
حلول أو اتحاد
أطوار الكون من البداية إلى النهاية : عدم مقيد ( بين الأطوار ) + كن = تكامل سلسلة الأطوار في معية الله
بلا حلول أو اتحاد
والخلق بقيومية ( كن ) مستمر علي جميع المستويات ، ولا
شبهة تماثل بين المخلوق والخالق ، كما انه لا شبهة تماثل بين المصنوع والصانع ،
فمثلا لا تماثل بين النجار والكرسي ،
وبناء على ذلك فلا شبهة للحلول او الإتحاد ، لأن الحلول والأتحاد يقتضى التماثل
، ولا تماثل بين الحادث العدمي وواجب الوجود القديم الأزلي الذي ليس كمثله شىء
ودنيا التكليف يمكن تشبيهها بنقطة أو قطرة
أو حلقة في محيط لا حد له ، وجدار تلك الحلقة هو الحجاب الذي يحوى داخله عالم
التكليف بأسبابه وأجسامه وطاقاته وزمانه ومكانه كما يخلقه العليم الحكيم ، وفي
داخل هذه الحلقة الآيات ، وفيها تسبيح المسبحين وسجود الساجدين وعروج العارجين ،
والحلقة ومحتوياتها في حالة قبض وبسط وشؤن كثيرة وفقا لتجليات (أمواج) الأسماء
والصفات ، وجدار الحلقة هو سدرة المنتهى لعقول المكلفين ، ولا سبيل للعقل القاصر
في أن ينفذ إلى ما وراء الجدار إلا بسلطان ولا سبيل للعلم به إلا من خلال الوحي
، والفقاعة وجدارها عدم في ذاتها تكتسب وجودها بقيومية كن فتصبح مخلوقا في معية
الله ، فلا تطلب المستحيل وألزم حدودك حتى يكشف عن الغطاء وسبح مع المسبحين
، وأسجد واقترب .
|
* وعندما
يعرف العبد أنه لا مكان له ( هو ومن حوله من الحوادث ) إلا في معية الله ولا وجود
له في ذاته إلا بإفاضة الوجود عليه – جودا وكرما – من واجب الوجود بذاته الحي
القيوم ، وعندما يعلم المخلوق أنه لا شيء لولا قيومية إفاضة الوجود عليه من ربه
الموجود الذي لا تعد نعمه ولا تحصى ، عندما يوقن بذلك يخر ساجدا مسبحا للواحد
القهار فيعبد الله وكأنه يراه فهو أقرب إليه من حبل الويد .
بعض الأمثلة التطبيقية لبعض المشكلات الخاصة
بالمعية
قضايا مشكلة في طريق المعية
1- قضية الحجاب بالنسبة للخالق من ناحية وبالنسبة
للمخلوق من ناحية أخرى
2- قضية الخير والشر .
3- قضية خلق افعال العباد .
4- الخلق( بكن ) والأطوار الممتده في الزمان .
قلنا
في البحث السابق أن كل المخلوقات بذاتها عدم ولا مكان لها إلا في معية الله وكل
تواصل بينها وبين خالقها من وراء حجاب ، وهنا تجد عدة اسئلة هي :
*السؤال الأول :
ما هو الحجاب ، وهل يرتبط بالخالق أم
بالمخلوق ، وما فائدته ؟
الرد : الحجاب هو كينونة تحيط بالمخلوق
فقط لأن الخالق العظيم لا يحيط به حد ولا
يحجبه شيىء ، بل المحجوب هو المخلوق ، وفي الحجاب رحمة لأن كشف ذلك الحجاب
معناه زوال المخلوق في الحال ، كما اخبر صلى الله عليه وسلم وكما اشار القرآن
الكريم في التجلى للجبل (ومن باب التشبيه يمكن اعتبار الحجاب فقاعة أو غلافا
يتواجد المخلوق بداخله )
*السؤال الثاني : جاء في بحث فلسفة العدم أن كل المخلوقات في معية الله ، فهل ينطبق ذلك
على الشرور والنجاسات والأشياء الدنيئة ؟
الرد : كل شيء مخلوق لله لا يطلق عليه في
ذاته خير أو شر أو نجاسة ، ولكن قضية الخير والشر وغير ذلك من قضايا التكليف في
دار الاختبار ، فما أمر به – سبحانه - خير
وما نهى عنه شر (تكليفا) ويترتب عليه كسب
العبد للطاعة أو اكتسابه للمعصية ، ليترتب علي ذلك الحساب والعقاب في دنيا التكليف ويوم
الحساب .
على
سبيل المثال : الأكل وغيره من العمليات
البيولوجية لا يطلق عليها خير أو شر ، ولكن أكل أموال اليتيم بالباطل شر وظلم عظيم
، وكذا البول والغائط نحملها في أجسامنا ونصلى بها ولكن في وضع تكليفي معين تسمى
نجاسة وتبطل الصلاة ، وقس على ذلك ..
* السؤال الثالث : اذا كان المخلوق بذاته عدم والله خالق كل شيىء (حتى افعال العباد)
فماذا بقى للمخلوق وعلى أي شيىء يحاسب اذن ؟
الرد : الله خالق كل شيىء وعندما يخلق
الحق خلقا لهدف وغاية يخلق فيه احداث تمكنه من تحقيق ما خلق لأجله ، فمثلا عندما
خلق الله الإنسان على التكليف خلق فيه القدرة على الإختيار بين البدائل بأرادة حرة
( غير مقيدة ) ، وهناك دليل عقلي على ذلك وديل نقلي :
* الدليل العقلي هو : أن مخ
الإنسان يتقسم الى مناطق تعمل بلا تدخل الإرادة ( كحركة الحشا والدم ودقات القلب
وغيرها ) ومناطق تعمل من خلال الإرادة الحرة ( ككل الحركات والأفعال الإرادية )
وقد يقول مجادل : أن مناطق المخ الإرادية تحتاج الى أن يخلق فيها احداث منشطة
للفعل الإرادي ، فماذا
بقي للإنسان حتى يسأل عليه ؟
أرد وبالله التوفيق : بقي له توجيه النية ، والقدرة المطلقة على توجيه
النية خلقها الله في الإنسان لتكون مركز التكليف ، فعندما يوجه الإنسان نيته الى
حدث (يرتضيه ) يخلق الله ( أن شاء ) سلسلة
الأحداث الإرادية التي تترجم هذا التوجه الى واقع عملي (إقتراف ) يحاسب عليه الإنسان .
* والوحي الصادق يؤكد ذلك كما يأتي : جاء
في صحيح البخاري : قَالَ عليه الصلاة والسَّلام: (إِنَّمَا الأعْمَالُ
بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ
إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ).
قَالَ النَّوَوِيّ : النِّيَّةُ
الْقَصْدُ وَهِيَ عَزِيمَةُ الْقَلْبِ وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ
عَزِيمَةَ الْقَلْبِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْقَصْدِ ، وَقَالَ
الْبَيْضَاوِيُّ النِّيَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ انْبِعَاثِ الْقَلْبِ نَحْوَ مَا
يَرَاهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ حَالًا أَوْ
مَآلًا وَالشَّرْعُ خَصَّصَهُ بِالْإِرَادَةِ الْمُتَوَجِّهَةِ نَحْوَ الْفِعْلِ
لِابْتِغَاءِ رِضَاءِ اللَّهِ وَامْتِثَالِ حُكْمِهِ.
* السؤال الرابع : اذا كان الخلق يتم بقيومية ( كن ) فما بال الأطوار الممتدة في
الخـــــلق ( الأسباب والعلل ) ؟
الإجابة : خلق الأطوار ضمن قضية (كن ) ، فالأمر ( كن ) يشمل الأطوار وغير
الأطوار ، وتتابع العلل والمعلولات في عالم الأسباب ضمن قضية التكليف ، فهي أدوات
العقل المكلف في رحلته الإيمانية في عالم الأسباب في دنيا التكليف.
فالكون
الذي يتعامل معه العقل مبني من نسيج من سلاسل الأسباب والعلل ، والتي تأخذ العقل
في رحلة في آيات عالم الأسباب ليطل في نهايتها الى الغيب وكأنه يراه كما بينا
سابقا .
* وسلسلة الأطوارعملية خلق على هيئة مراحل تكون
فيها خلق المرحلة السابقة علة للمرحلة التي تليها ولكن ليس علة تامة بل لا بد من
خلق أحداث في العلة السابقة لتتحول إلى الطور التالي لها ، ولنضرب لذلك مثلا : في
مراحل الجنين الذي يبدأ بخلق النطفة وهي وان كانت سبب لظهور العلقة ، ولكن في
الحقيقة لو تركت النطفة بذاتها فأنها لن تعطي الطور التالي وهو العلقة ، لأن
العلقة معدومة في النطفة ( وفاقد الشيىء لا يعطيه ) ، فلا بد من خلق أحداث في
النطفة تجعلها قابلة للتمايز للمرحلة التالية ( العلقة ) وهكذا ، وسلسلة الأطوار
في الكون تأخذ بالعقل المكلف الى رحلة اليقين يتصاعد بها العقل على سلم الأسباب
حتى يطل في النهاية الى عالم الغيب وكأنه يراه ، ولو كان الخلق بلا سلسلة العلل
والمعلولات أو السببية لفقد العقل مبادئه الأولية ( السببية والغائية ) في عالم
الأسباب ولطاش العقل وسقط التكليف .
مشكل بعض الآيات والأحاديث النبوية
مشكل إتيان الله في (ظلل من الغمام )
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي
ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) البقرة
يتوهم
غير الراسخين في العلم أن الآية تعني أن الله سبحانه في جهة ويوم الحساب في جهه أخرى
يأتي إليها الحكم العدل للفصل والحكم - سبحانه وتعالى عما يصفون - ولقد بينا في
شرح المعية أنه سبحانه المحيط الذي تشكل كل المخلوقات حلقة في حكم العدم في معيته فلا
وجود لها متخارج عن المحيط ، فهو الأول الذي ليس قبله شىء والآخر الذي ليس بعده
شىء والظاهر الذي ليس فوقه شىء والباطن الذي ليس دونه شىء ، وكل المخلوقات في حكم
العدم ولا وجود لها إلا بقيومية كن ، وبناء على ذلك يفهم من الإتيان هنا تبدي موقف
الفصل المهيب للمكلفين عند الحساب ، وتحقيق ذلك في كتب الراسخين في العلم كما ياتي
:
( في
) هنا بمعنى ( مع ) أو ( حال ) بمعنى أن عند يوم الحساب والفصل يأتي الله في موكب
مهيب حجابه ظلل من الغمام تحيط به الملائكة الأبرار .
والأتيان
هنا ليس كأتيان الحوادث الممكنات والأجسام المحدودة الهالكة ، بل اتيان كما وصف
سبحانه ، فليس ( في ) هنا وصف لإحاطة الغمام - الحادث ( العدمي ) المحدود الهالك –
بالذي لا يحيط به حد ، بل يفهم منه هيبة الموقف المقدر للفصل بين العباد .
مشكل ( النزول ) :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( قَالَ يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ
لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ
يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ
يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ))
يتوهم
غير الراسخين في العلم أن الآية تعني أن الله سبحانه وتعالى في جهة العلو في
السماء ( المكان ) والإنسان في جهة الدنو ( الأرض ) والرحمن سبحانه ينتقل من
السماء الي الأرض- سبحانه وتعالى عما
يصفون – ولقد
بينا في شرح المعية أنه سبحانه المحيط الذي تشكل كل المخلوقات حلقة في حكم العدم في
معيته فلا وجود لها متخارج عن المحيط ، فهو الأول الذي ليس قبله شىء والآخر الذي ليس
بعده شىء والظاهر الذي ليس فوقه شىء والباطن الذي ليس دونه شىء ، وكل المخلوقات في
حكم العدم ولا وجود لها إلا بقيومية كن ، وبناء على ذلك يفهم من النزول
هنا تجليات الأسماء كما بينا وفيما يأتي من التحقيق :
*
نقول : في اجسام الحوادث يجري الأنتقال في المكان والزمان ، ولأن المكان والزمان
من الحوادث (الممكنات ) فأنه لا يمكن ان تحد الممكنات( العدمية) من له صفات الكمال
واجب الوجود لزاته الذي ليس كمثله شيئ ، ومن هنا جاء فهم شارح الحديث في فتح
الباري اذ يقول : وَلَمَّا ثَبَتَ بِالْقَوَاطِعِ أَنَّهُ سُبْحَانه مُنَزَّه عَنْ
الْجِسْمِيَّة وَالتَّحَيُّز اِمْتَنَعَ عَلَيْهِ النُّزُول عَلَى مَعْنَى
الِانْتِقَال مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضِع أَخْفَض مِنْهُ ، فَالْمُرَاد نُور
رَحْمَته ، أَيْ يَنْتَقِل مِنْ مُقْتَضَى صِفَة الْجَلَال الَّتِي تَقْتَضِي
الْغَضَب وَالِانْتِقَام إِلَى مُقْتَضَى صِفَة الْإِكْرَام الَّتِي تَقْتَضِي الرَّأْفَة
وَالرَّحْمَة .
وينطبق
ذلك على الحديث التالي :
قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تَقَرَّبَ
مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْت إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا
تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَة } ولقد شرحه النووي على مسلم فقال :
هَذَا
الْحَدِيث مِنْ أَحَادِيث الصِّفَات ، وَيَسْتَحِيل إِرَادَة ظَاهِره ، وَقَدْ
سَبَقَ الْكَلَام فِي أَحَادِيث الصِّفَات مَرَّات ، وَمَعْنَاهُ مَنْ تَقَرَّبَ
إِلَيَّ بِطَاعَتِي تَقَرَّبْت إِلَيْهِ بِرَحْمَتِي وَالتَّوْفِيق وَالْإِعَانَة
، وَإِنْ زَادَ زِدْت ، فَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي وَأَسْرَعَ فِي طَاعَتِي أَتَيْته
هَرْوَلَة ، أَيْ صَبَبْت عَلَيْهِ الرَّحْمَة وَسَبَقْته بِهَا ، وَلَمْ
أُحْوِجْه إِلَى الْمَشْي الْكَثِير فِي الْوُصُول إِلَى الْمَقْصُود ،
وَالْمُرَاد أَنَّ جَزَاءَهُ يَكُون تَضْعِيفه عَلَى حَسَب تَقَرُّبه .
مشكل ( من في النار )
(( إذْ قَالَ
مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ
آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا
نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(9)) النمل
وفيها
إشكال كبير نتعرف عليه من خلال تفسير أضواء البيان للإمام الشنقيطي كما يأتي :
اختلفت
عبارات المفسرين في المراد بـ {مَن فِى النَّارِ} ، في هذه الآية في سورة «النمل»
فقال بعضهم: هو
الله جل وعلا، وممن روي عنه هذا القول: ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومحمد بن
كعب قالوا: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} ، أي: تقدس الله وتعالى. قال مقيده عفا
الله عنه: وهذا القول بعيد من ظاهر القرآن. ولا ينبغي أن يطلق على الله أنه في
النار التي في الشجرة، سواء قلنا: إنها نار أو نور، سبحانه جل وعلا عن كل ما لا
يليق بكماله وجلاله!
وأقرب
الأقوال في معنى الآية إلى ظاهر القرآن العظيم، قول من قال: إن في النار التي هي
نور ملائكة وحولها ملائكة وموسى. وأن معنى {بُورِكَ مَن فِى النَّارِ} ، أي:
الملائكة الذين هم في ذلك النور ومن حولها. أي وبورك الملائكة الذين هم حولها،
وبورك موسى لأنه حولها معهم.
وفي الحقيقة ان كثير من علماء التفسير ومنهم أبن
عباس والطبري وأبن كثير وغيرهم ذكروا ان المقصود بمن في النار ( أو النور ) هو
الله .
يقول الأمام الطبري : واختلف
أهل التأويل في المعنِّي بقوله (مَنْ فِي النَّارِ) فقال بعضهم: عنى جلّ جلاله
بذلك نفسه، وهو الذي كان في النار، وكانت النار نوره تعالى ذكره في قول جماعة من
أهل التأويل ومنهم ابن عباس ، والزجاج ، والثعلبي وغيرهم .
ويقول العز بن عبد السلام : تقديره بوركت النار، أو بورك النور الذي
في النار، أو بورك الله الذي في النور أو الملائكة، أوالشجرة لأن النار اشتعلت فيها
وهي خضراء لا تحترق.
وقال الثعلبي : قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن: يعني
قدّس من في النار وهو الله سبحانه عنى به نفسه عزّ وجل، وتأويل هذا القول أنّه كان
فيها لا على معنى تمكّن الأجسام لكن على معنى أنّه نادى موسى منها، وأسمعه كلامه من
جهتها وأظهر له ربوبيته من ناحيتها، وهو كما روي أنّه مكتوب في التوراة: جاء الله عزّ
وجلّ من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران، فمجيئه عزّ وجلّ من سيناء بعثته
موسى منها، ومن ساعير بعثته المسيح بها، واستعلامه من جبال فاران بعثه المصطفى صلى
الله عليه وسلّم، وفاران مكة، وقالوا: كانت النار نوره عزّ وجلّ، وإنّما ذكره بلفظ
النّار لأنّ موسى حسبه نارا، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر.
ولو أخذنا برأي أبن عباس ومن أقره من
العلماء الكبار ، فيمكن تأويله الى ( بورك من في الحجاب ) ويوكد ذلك حديث ورد في
صحيح مسلم :
" إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا
يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ،
يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ
النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي
بَكْرٍ: النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى
إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ".
الثمرة
كان الله ولم يكن معه أو قبله شيء ثم خلق كل شيء من
العدم ( اللاشيء ) بان قال للعدم كن فكان كما أراد وقدر ، ولأن العدم أصل المخلوق
وصفة ملازمة لذاته ، فأن قيومية كن لازمة لاستمرار وجوده مكونا ، ولأن الخلاق هو
الأول ليس قبله شيء وهو الأخر ليس بعده شيء وهو الظاهر ليس فوقه شيء وهو الباطن
ليس دونه شيء ، فلا جهة للحوادث المخلوقة من العدم إلا في معية المحيط سبحانه ( فهو الخالق لها من اللاشيء والمحيط بها زاتا
وصفات ) ، بلا حلول أو اتحاد ، فكيف يحل أو يتحد الشىء الحادث ألعدمي في المحيط
القديم الأزلي الذي ليس كمثله شىء ، وهل يتغير الواحد لو أضفت إليه عددا لا يحصي
من الأصفار( 1+0) ونسبة المعية هي قيومية (كن) .
))اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ ، وَأَلْجَأْتُ
ظَهْرِي إِلَيْكَ ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ
، رَهْبَةً مِنْكَ وَرَغْبَةً إِلَيْكَ ، لا مَنْجَى مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ ،
آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وِبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ)) ولا تنسي من خلقك من العدم وجعلك شيئا مذكورا في حضن معيته وكرمك بالخلافة
وحفظك ورعاك وسخر لك ما لا يحصي من النعم فأعبده وكن عبدا ربانيا واسجد واقترب .
* وعليك أن تتفكر
فيما حولك وفي نفسك ، هل هناك خالق لأي شيء غير الله ، وهل هناك من له فضل منحك
الوجود من العدم والحياة من الموات والعقل من البكم غير الله ، وهل هناك من تابعك
وأنت في بطن أمك ثم أخرجك – من كتم الرحم -
طفلا غير الله ، هل هناك من قدر لك سبل الحياة والرزق وسخر لك كل شيء غير
الله ، وهل هناك من تابعك بالوحي هدى ورحمة غير الله ، فبأي حق تعبد غيره وتشكر
غيره وتلتمس العزة في غيره ، وأيضا عليك أن تتفكر في قوانينه التي وضعها لتدير
حركة الكون ونظامه على أكمل وجه بلا خلل أو فطور ، فكيف ترفض دينه الذي ( يَأْمُر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَر وَالْبَغْي ) والذي وضعه ليدير حركة حياة المكلفين فيكون
شرفا وعزا لهم ويكون طوق النجاة لهم في الدنيا والآخرة ، فكيف تستبدل شرعه
بتشريعات القردة والخنازير وعبد الطاغوت والمفسدين في الأرض ممن يقتلك ظلما ويسرق
مالك ويهتك عرضك ويفسد اهلك ويتكبر عليك ويذلك ( فأخلع كل من يرفض
دينه ويحارب جنده ولا تشرك به فهو واسع وفر إليه وأسجد وأقترب ) وعلى
من يرفض دينه أو يحارب شرعه أو يلتمس العزة في غيره ، عليه أن يخرج من ملكه ولا يستخدم
شمسه وقمره وهواءه وماءه وسمعه وبصره ومكانه وزمانه ، فأين تذهبون " اللهم إنّا نستعينك ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل
عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخضع لك، ونخلع ونترك من يكفرك،
اللهم إيّاك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك،
إنّ عذابك الجد بالكافرين ملحق "
وهذا
هو سر المعية الذي حير البرية ، وفي النهاية أقول هذا اجتهاد الفقير حسين بن رضوان
اللبيدي التميمي فان أصبت فهو من فضل الله
ومنته وجوده وكرمه ، وان أخطأت فهو منى وارجع
عن خطئي واستغفر الله وأتوب إليه ، فيا من يصلك هذا الجهد نرجوا منك – ولوجه الله
– الرد بالنصح والمشورة جعله الله في ميزان حسناتكم ونسألكم الدعاء ، ولا حول ولا قوة
إلا بالله والحمد لله رب العالمين
عدل في رمضان 1437
الفقير إلي الله
د حسين رضوان سليمان اللبيدي التممي
استشاري طب بشري وعضو مؤسس لهيئة الإعجاز العلمي بمكة المكرمة
وعضو مكتب الإعجاز العلمي بالقاهرة ومسئول مكتب الإعجاز بجنوب الوادي
مصر – سوهاج – برديس
محمول مصري : 01147122632
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق